توطئة وتمهيد:
قال الشيخ علي اليزدي الحائري:
(الريحان الأول في الخطبة التي خطبها في البصرة، المعروفة بخطبة البيان. ولما كانت نسختها مختلفة ذكرنا نسختين منها: نسخة ذكر فيها أصحاب القائم، ونسخة ذكر فيها أصحاب الولاة، منسوبة منه إلى البلاد.
النسخة الأولى: في نسخة حدثنا محمد بن أحمد الأنباري قال: حدثنا محمد بن أحمد الجرجاني قاضي الري قال: حدثنا طوق بن مالك، عن أبيه، عن جده، عن عبد الله بن مسعود، رفعه إلى علي بن أبي طالب (عليه السلام):
لما تولى الخلافة بعد الثلاثة أتى إلى البصرة، فرقى جامعها، وخطب الناس خطبة تذهل منها العقول، وتقشعر منها الجلود، فلما سمعوا منه ذلك أكثروا البكاء والنحيب وعلا الصراخ، قال: وكان رسول الله (صلى الله عليه وآله) قد أسر إليه السر الخفي الذي بينه وبين الله عز وجل، فلأجل ذلك انتقل النور الذي كان في وجه رسول الله (صلى الله عليه وآله) إلى وجه علي بن أبي طالب (عليه السلام).
قال: ومات النبي (صلى الله عليه وآله) في مرضه الذي أوصى فيه لعلي أمير المؤمنين (عليه السلام). وكان قد أوصى أمير المؤمنين (عليه السلام): أن يخطب الناس خطبة البيان، فيها علم ما كان وما يكون إلى يوم القيامة.
قال: فأقام أمير المؤمنين (عليه السلام) بعد موت النبي (صلى الله عليه وآله) صابراً على ظلم الأمة إلى أن قرب أجله، وحان وصاية النبي (صلى الله عليه وآله) بالخطبة التي تسمى خطبة البيان، فقام أمير المؤمنين (عليه السلام) بالبصرة ورقى المنبر، وهي آخر خطبة خطبها، فحمد الله وأثنى عليه، وذكر النبي (صلى الله عليه وآله)، فقال:
أيها الناس، أنا وحبيبي محمد (صلى الله عليه وآله) كهاتين ـ وأشار بسبابته والوسطى ـ ولولا آية في كتاب الله لنبأتكم بما في السماوات والأرض وما في قعر هذا، فما يخفى علي منه شيء، ولا تعزب كلمة منه. وما أوحي إلي، بل هو علم علمنيه رسول الله (صلى الله عليه وآله).
لقد أسر لي ألف مسألة، في كل مسألة ألف باب، وفي كل باب ألف نوع، فاسألوني قبل أن تفقدوني، اسألوني عما دون العرش أخبركم، ولولا أن يقول قائلكم: إن علي بن أبي طالب ساحر كما قيل في ابن عمي، لأخبرتكم بمواضع أحلامكم، وبما في غوامض الخزائن (المسائل)، ولأخبرتكم بما في قرار الأرض.
وهذه هي خطبته التي خطب. وهي خطبة البيان:
النص الأول لخطبة البيان:
(بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله بديع السماوات وفاطرها، وساطح المدحيات وقادرها، ومؤيد الجبال وساغرها، ومفجر العيون وباقرها، ومرسل الرياح وزاجرها، وناهي القواصف وآمرها، ومزين السماء وزاهرها، ومدبر الأفلاك ومسيرها، ومظهر البدور ونائرها، ومسخر السحاب وماطرها، ومقسم المنازل ومقدرها، [و] مدلج الحنادس وعاكرها، ومحدث الأجسام وقاهرها، ومنشئ السحاب ومسخرها، ومكور الدهور ومكررها، ومورد الأمور ومصدرها، وضامن الأرزاق ومدبرها، ومنشئ الرفات ومنشرها.
أحمده على آلائه وتوافرها، وأشكره على نعمائه وتواترها، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، شهادة يؤدي الإسلام ذاكرها، ويؤمن من العذاب يوم الحساب ذاخرها، وأشهد أن محمداً عبده الخاتم لما سبق من الرسالة وفاخرها، ورسوله الفاتح لما استقبل من الدعوة وناشرها، أرسله إلى أمة قد شغل بعبادة الأوثان سايرها، واغتلطس بضلالة دعاة الصلبان ماهرها، وفخر بعمل الشيطان فاخرها، وهداها عن لسان قول العصيان طائرها، وألم بزخرف الجهالات والضلالات سوء ماكرها. فأبلغ رسول الله في النصيحة وساحرها، ومحا بالقرآن دعوة الشيطان ودامرها، وأرغم معاطس جهال العرب وأكابرها، حتى أصبحت دعوته بالحق ينطق ثامرها، واستقامت به دعوة العليا وطابت عناصرها.
أيها الناس، سار المثل، وحقق العمل، وكثر الوجل، وقرب الأجل،
ودنا الرحيل، ولم يبق من عمري إلا القليل، فاسألوني قبل أن تفقدوني.
أيها الناس، أنا المخبر عن الكائنات، أنا مبين الآيات، أنا سفينة النجاة، أنا سر الخفيات، أنا صاحب البينات، أنا مفيض الفرات، أنا معرب التوراة، أنا المؤلف للشتات، أنا مظهر المعجزات، أنا مكلم الأموات، أنا مفرج الكربات، أنا محلل المشكلات، أنا مزيل الشبهات، أنا ضيغم الغزوات، أنا مزيل المهمات، أنا آية المختار، أنا حقيقة الأسرار، أنا الظاهر علي حيدر الكرار، أنا الوارث علم المختار، أنا مبيد الكفار، أنا أبو الأئمة الأطهار.
أنا قمر السرطان، أنا شعر الزبرقان، أنا أسد الشرة، أنا سعد الزهرة، أنا مشتري الكواكب، أنا زحل الثواقب، أنا عين الشرطين، أنا عنق السبطين، أنا حمل الإكليل، أنا عطارد التعطيل، أنا قوس العراك، أنا فرقد السماك، أنا مريخ الفرقان، أنا عيون الميزان، أنا ذخيرة الشكور، أنا مصحح الزبور، أنا مؤول التأويل، أنا مصحف الإنجيل، أنا فصل الخطاب، أنا أم الكتاب، أنا منجد البررة، أنا صاحب البقرة، أنا مثقل الميزان، أنا صفوة آل عمران، أنا علم الأعلام، وأنا جملة الأنعام، أنا خامس الكساء، أنا تبيان النساء، أنا صاحب الأعراف، أنا مبيد الأسلاف، أنا مدير الكرم، أنا توبة الندم، أنا الصاد والميم، أنا سر إبراهيم، أنا محكم الرعد، أنا سعادة الجد، أنا علانية المعبود، أنا مستنبط هود، أنا نحلة الخليل، أنا آية بني إسرائيل، أنا مخاطب الكهف، أنا محبوب الصحف، أنا الطريق الأقوم، أنا موضح مريم، أنا السورة لمن تلاها، أنا تذكرة آل طه.
أنا ولي الأصفياء، أنا الظاهر مع الأنبياء، أنا مكرر الفرقان، أنا آلاء
الرحمن، أنا محكم الطواسين، أنا إمام آل ياسين، أنا حاء الحواميم، أنا قسم ألم، أنا سائق الزمر، أنا آية القمر، أنا راقب المرصاد، أنا ترجمة صاد، أنا صاحب الطور، أنا باطن السرور، أنا عتيد قاف، أنا قارع الأحقاف.
أنا مرتب الصافات، أنا ساهم الذاريات، أنا سورة الواقعة، أنا العاديات والقارعة، أنا نون والقلم، أنا مصباح الظلم، أنا مؤلف، أنا مؤول القرآن، أنا مبين البيان، أنا صاحب الأديان، أنا ساقي العطشان، أنا عقد الإيمان، أنا قسيم الجنان، أنا كيوان الإمكان، أنا تبيان الامتحان، أنا الأمان من النيران، أنا حجة الله على الإنس والجان، أنا أبو الأئمة الأطهار، أنا أبو المهدي القائم في آخر الزمان.
قال: فقام إليه مالك الأشتر، فقال: متى يقوم هذا القائم من ولدك يا أمير المؤمنين؟!
فقال (عليه السلام): إذا زهق الزاهق، وخفت الحقائق، ولحق اللاحق، وثقلت الظهور، وتقاربت الأمور، وحجب النشور، وأرغم المالك، وسلك السالك، ودهش العدد، وهاجت الوساوس، وغيطل العساعس ، وماجت الأمواج، وضعف الحاج، واشتد الغرام، وازدلف الخصام، واختلفت العرب، واشتد الطلب، ونكص الهرب، وطلبت الديون، وذرفت العيون، وأغبن المغبون، وشاط النشاط، وحاط الهباط، وعجز المطاع، وأظلم الشعاع، وصمت الأسماع، وذهب العفاف، وسجسج الإنصاف، واستحوذ الشيطان، وعظم العصيان، وحكمت النسوان، وفدحت الحوادث، ونفثت النوافث، وهجم الواثب، واختلفت الأهواء، وعظمت البلوى، واشتدت الشكوى،
واستمرت الدعوى، وقرض القارض، ولمض اللامض، وتلاحم الشداد، ونقل الملحاد، وعجت الفلاة، وخجعج الولاة، ونضل البارخ، وعمل الناسخ، وزلزلت الأرض، وعطل الفرض، وكبتت الأمانة، وبدت الخيانة، وخشيت الصيانة، واشتد الغيض، وأراع الفيض، وقاموا الأدعياء، وقعدوا الأولياء، وخبثت الأغنياء، ونالوا الأشقياء، ومالت الجبال، وأشكل الإشكال، وشيع الكربال، ومنع الكمال، وساهم المستحيح، ومنع الفليح، وكفكف الترويح، وخدخد البلوع، وتكلكل الهلوع، وفدفد المذعور، وندند الديجور، ونكس المنشور، وعبس العبوس، وكسكس الهموس، وأجلب الناموس، ودعدع الشقيق، وجرثم الأنيق، ونور الأفيق، وأذاد الزائد، وزاد الرايد، وجد الجدود، ومد المدود، وكد الكدود، وحد الحدود، ونطل الطليل، وعلعل العليل، وفضل الفضيل، وشتت الشتات، وشمتت الشمات، وكد الهرم، وقضم القضم، وسدم السدم، وبال الزاهب، وذاب الذائب، ونجم ثاقب، وورور القرآن، واحمر الدبران، وسدس الشيطان، وربع الزبرقان، وثلث الحمل، وساهم زحل، وأقل العرا والزخار، وأنبت الأقدار، وكملت العشرة، وسدس الزهرة، وغرمت الغمرة، وطهرت الأفاطس، وتوهم الكساكس، وتقدمتهم النفايس.
فيكدحون الجرائر، ويملكون الجزائر، ويحدثون كيسان، ويخربون خراسان، ويصرفون الحلسان، ويهدمون الحصون، ويظهرون المصون، ويقتطفون الغصون، ويفتحون العراق، ويحجمون الشقاق بدم يراق، فعند ذلك ترقبوا خروج صاحب الزمان.
ثم إنه جلس على أعلى مرقاة من المنبر وقال: آه ثم آه، لتعريض الشفاه، وذبول الأفواه.
قال (عليه السلام): فالتفت يميناً وشمالاً، ونظر إلى بطون العرب وساداتهم، ووجوه أهل الكوفة وكبار القبائل بين يديه، وهم صموت كأن على رؤوسهم الطير، فتنفس الصعداء، وأنَّ كمداً، وتململ حزيناً، وسكت هنيهة.
فقام إليه سويد بن نوفل، وهو كالمستهزئ، وهو من سادات الخوارج، فقال: يا أمير المؤمنين، أأنت حاضر ما ذكرت، وعالم بما أخبرت؟!
قال: فالتفت إليه الإمام (عليه السلام)، ورمقه بعينه رمقة الغضب.
فصاح سويد بن نوفل صيحة عظيمة من عظم نازلة نزلت به، فمات من وقته وساعته، فأخرجوه من المسجد، وقد تقطع إرباً إرباً.
فقال (عليه السلام): أبمثلي يستهزئ المستهزئون، أم علي يتعرض المتعرضون؟! أويليق لمثلي أن يتكلم بما لا يعلم، ويدعي ما ليس له بحق. هلك والله المبطلون، وأيم الله لو شئت ما تركت عليها من كافر بالله، ولا منافق برسوله، ولا مكذب بوصيه، وإنما أشكو بثي وحزني إلى الله، وأعلم من الله ما لا تعلمون.
قال: فقام إليه صعصعة بن صوحان، وميثم، وإبراهيم بن مالك الأشتر، وعمر بن صالح، فقالوا: يا أمير المؤمنين، قل لنا بما يجري في آخر الزمان، فإن قولك يحيي قلوبنا، ويزيد في إيماننا.
فقال: حباً وكرامة.. ثم نهض (عليه السلام) قائماً وخطب خطبة
بليغة، تشوق إلى الجنة ونعيمها، وتحذر من النار وجحيمها، ثم قال (عليه السلام): أيها الناس، إني سمعت أخي رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول: تجتمع في أمتي مائة خصلة لم تجتمع في غيرها.
فقامت العلماء والفضلاء يقبلون بواطن قدميه، وقالوا: يا أمير المؤمنين نقسم عليك بابن عمك رسول الله (صلى الله عليه وآله) أن تبين لنا ما يجري في طول الزمان بكلام يفهمه العاقل والجاهل.
قال: ثم إنه حمد الله وأثنى عليه وذكر النبي (صلى الله عليه وآله) فصلى عليه وقال: أنا مخبركم بما يجري من بعد موتي، وبما يكون إلى خروج صاحب الزمان القائم بالأمر من ذرية ولد الحسين، وإلى ما يكون في آخر الزمان حتى تكونوا على حقيقة من البيان.
فقالوا: متى يكون ذلك يا أمير المؤمنين؟!
فقال (عليه السلام): إذا وقع الموت في الفقهاء، وضيعت أمة محمد المصطفى الصلاة، واتبعوا الشهوات، وقلت الأمانات وكثرت الخيانات، وشربوا القهوات، واستشعروا شتم الآباء والأمهات، ورفعت الصلاة من المساجد بالخصومات، وجعلوها مجالس الطعامات، وأكثروا من السيئات، وقللوا من الحسنات، وعوصرت السماوات، فحينئذ تكون السنة كالشهر، والشهر كالأسبوع، والأسبوع كاليوم، واليوم كالساعة، ويكون المطر قيظاً، والولد غيضاً، ويكون أهل ذلك الزمان لهم وجوه جميلة، وضمائر ردية، من رآهم أعجبوه، ومن عاملهم ظلموه، وجوههم وجوه الآدميين، وقلوبهم قلوب الشياطين، فهم أمرّ من الصبر، وأنتن من الجيفة، وأنجس من
الكلب، وأروغ من الثعلب، وأطمع من الأشعب، وألزق من الجرب، لا يتناهون عن منكر فعلوه، إن حدثتهم كذبوك، وإن أمنتهم خانوك، وإن وليت عنهم اغتابوك، وإن كان لك مال حسدوك، وإن بخلت عنهم بغضوك، وإن وضعتهم شتموك، سماعون للكذب، أكالون للسحت، يستحلون الزنا، والخمر والمقالات، والطرب والغناء، والفقير بينهم ذليل حقير، والمؤمن ضعيف صغير، والعالم عندهم وضيع، والفاسق عندهم مكرم، والظالم عندهم معظم، والضعيف عندهم هالك، والقوي عندهم مالك. لا يأمرون بالمعروف، ولا ينهون عن المنكر، الغنى عندهم دولة، والأمانة مغنمة، والزكاة مغرمة، ويطيع الرجل زوجته، ويعصي والديه ويجفوهما، ويسعى في هلاك أخيه، وترفع أصوات الفجار، ويحبون الفساد والغناء والزنا، ويتعاملون بالسحت والربا، ويعار على العلماء، ويكثر ما بينهم سفك الدماء، وقضاتهم يقبلون الرشوة، وتتزوج الامرأة بالامرأة، وتزف كما تزف العروس إلى زوجها، وتظهر دولة الصبيان في كل مكان، ويستحل الفتيان المغاني وشرب الخمر، وتكتفي الرجال بالرجال، والنساء بالنساء، وتركب السروج الفروج، فتكون الامرأة مستولية على زوجها في جميع الأشياء.
وتحج الناس ثلاثة وجوه: الأغنياء للنزهة، والأوساط للتجارة، والفقراء للمسألة.
وتبطل الأحكام، وتحبط الإسلام، وتظهر دولة الأشرار، ويحل الظلم في جميع الأمصار، فعند ذلك يكذب التاجر في تجارته، والصايغ في صياغته،